تحليلات

التوجه الخليجي إلى «النووي» في الميزان

فاتحة لتدخّل خارجي.. وللطاقة بدائل.. والمنطقة لا تحتمل الكوارث

يوسف عدنان العلي

يقول أستاذ الفلسفة الكاتب جعفر رجب في كتابه «مجرد حقيبة في المطار»، ناصحاً الشباب في العشرين من العمر: «حتى لو تهتم وتدرس وتبحث في أسرار البريعصي الذي يسير على جدار بيتك لمدة عشرين سنة، قد تنقذ البشرية من خلال دواء تستخلصه من هذا الكائن.. وحتى لو لم تصل القمة، ففي النهاية أنجزت شيئاً مفيداً لنفسك، وليس لغيرك، وهتفت لذاتك المبدعة، ولم تسر خلف غيرك.. أما إذا كنت مصرّاً على ملاحقة السياسة وأهلها، وجعلها كلّ همّك، متصوّراً نفسك هنري كسينجر.. فلن تصل إلا إلى وادٍ غير ذي زرع، تلاحق طائر المكّاء..».
ما كُتب صحيح لو كان الشاب يعيش في إحدى الدول المتقدمة، حيث يُسمح له بأن يبحث ويصنع ويُنجز، من دون الحاجة إلى السياسة. كمثال، الدكتور جاسم الحسن، الذي أفنى عمره ووقته في البحوث والتجارب، منذ عام 1976 إلى اليوم، راجياً الوصول إلى علاج لمرضَي السكري والسرطان، وتوصّل إلى علاج للمرضَين من سمكة «الجم» أثار اهتماماً كبيراً لدى الجهات الطبية في الغرب، رغم أن ما تلقاه من دعم يكاد لا يُذكر، لذلك توجه إلى الولايات المتحدة لاستكمال أبحاثه، ورفض العروض المقدمة له هناك لتبنّي العلاج، مصرّاً على أن يكون باسم الكويت. إذن الأمر في العالم العربي مرتبط بالسياسة، ولذلك على الشاب إدراك تلك المعادلة، فلا دعم حكومياً للأبحاث، ما دفع كثيراً من العقول إلى الهجرة.
لا يخلو التاريخ العربي العلمي من بعض الإنجازات، ومن ذلك المجال النووي، حيث كانت الحكومات تسعى إلى امتلاك الطاقة النووية، وحاولت مصر في عهد الرئيس جمال عبد الناصر التعاون مع الاتحاد السوفيتي بدءاً من عام 1954، وتجسّد التعاون عام 1958 عبر بناء أول محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة النووية (مفاعل أنشاص النووي) وهو مفاعل بحثي، بقدرة محدودة (2 ميغا واط).
من جهته، سعى الرئيس أنور السادات – آملا التكسّب من مبادرة السلام مع الكيان المحتل – إلى بناء محطات نووية إضافية، عن طريق الولايات المتحدة، لكن المحاولات باءت بالفشل.
ولم تقتصر محاولات بناء المفاعل النووي على مصر فحسب، فقد شيّد العراق أولى محطاته عام 1967 بالتعاون مع الاتحاد السوفيتي، ليكون أول مفاعل نووي ذا طاقة محدودة، وأطلق عليه «مفاعل تموز البحثي»، المشابه لمفاعل أنشاص من حيث القدرة (2 ميغاواط).
وفي العام ذاته، بنى العراق مفاعلاً ثانياً، بالتعاون مع فرنسا، أطلق عليه «تموز 2» أو «أوزيراك» (جمع لكلمتي IRAK وOSIRIS) بسبب تشابهه مع المفاعل الفرنسي (أوزيريس)، وكانت قدرة ذلك المفاعل العراقي 40 ميغاواط. لم يدم تقدم العراق العلمي طويلاً بسبب العدو الصهيوني، الذي شن غارات على المفاعلين عام 1981ودمّرهما.

ولم يكتف كيان قتلة الأطفال بهدم التقدم العربي النووي، فقبل تدميره المفاعل العراقي بعام، أقدم على قتل العلماء، وأبرزهم الدكتور المصري يحيى المشد، حيث اغتاله في فرنسا.
وإضافة إلى مصر والعراق، حاولت دول عربية عدة امتلاك الطاقة النووية، لكن التكلفة كانت كبيرة، ومن ذلك ما حدث في تجربة ليبيا بشأن البرنامج النووي الخاص بها، واضطرارها إلى التخلي عنه بعد حادثة لوكيربي، كما أن التجارب النووية الفرنسية في الجزائر من عام 1960 إلى 1966 أودت بحياة أكثر من 40 ألف شخص، وتسبّبت في فبراير الماضي بوصول بعض الغبار المشع من موقع التجارب في الجزائر إلى فرنسا.
واليوم، لا تزال هناك دول عربية تسعى إلى بناء مفاعلات نووية، بعد التجارب التي مر بها العراق ومصر وليبيا، ورغم عدم مأمونية المفاعلات مئة في المئة، فأي خطأ بسيط قد يكلف الدولة وجيرانها نتائج باهظة، منها إصابة الآلاف بأمراض مسرطنة وتلويث مياه البحر وتدمير البيئة، كما حدث في مفاعل تشيرنوبيل بأوكرانيا وفوكوشيما في اليابان وجزيرة الثلاثة أميال في ولاية بنسلفانيا بالولايات المتحدة، ما يحيلنا إلى تساؤل مهم: هل لا نزال كدول عربية بحاجة إلى هذه المفاعلات المُكلفة؟
إذا كان الهدف من بناء المفاعلات النووية عسكرياً لامتلاك سلاح فهذا شأن الدولة التي تسعى لذلك، لكن إذا كان الهدف توفير الطاقة الكهربائية فهناك بديل أفضل هو الطاقة المتجددة، التي يمكن الحصول عليها بوسائل عدة، منها السدود، والألواح الشمسية، ومراوح الرياح.
ما نراه اليوم من محاولات دول خليجية حثيثة لبناء مفاعلات نووية بالتعاون مع جهات غربية يطرح تساؤلات مهمة، فليس لدى دول الخليج سوى بحر واحد تطل عليه، وهي لا تحتمل أي كارثة نووية، لا سمح الله، والتجارب التاريخية تعطينا الدروس، فإلى اليوم لا تزال أضرار التسرّب الإشعاعي لمفاعل تشيرنوبيل موجودة، لأن المواد تبقى في نشاط إشعاعي فترات طويلة، والتخلص منها صعب جداً وتكلفته باهظة. كما أن حادثة فوكوشيما دفعت دولا عدة إلى إعادة النظر بالمفاعلات من حيث تطورها وإجراءات السلامة العالية، وتعمل ألمانيا على إغلاق جميع محطاتها النووية العام المقبل، في وقت تتجه روسيا لبناء مفاعلاتها النووية على سفن كبيرة الحجم بحيث إذا حصل خطأ لا تتأثر الدولة.
كذلك فإن التوجه الخليجي لبناء مفاعلات بالاستعانة بجهات أجنبية يفتح الباب أمام التدخل في الشأن الخليجي وفرض الأجندات.
وإن كان الهدف من المفاعلات الطاقة السلمية فإن لها بدائل، وإن كان لابد من بنائها فمن الأولى الاستعانة بالدول العربية أولاً ومن خبرات علمائها في هذا المجال، بدلاً من حرمانهم من الدعم ودفعهم إلى الهجرة لينهل الغرب من معرفتهم.
إن كان لابد من امتلاك الطاقة النووية في الخليج فالطريق الأسلم هو التعاون خليجياً وتأسيس قطاع يحافظ على أمن الخليج في حال حدوث مكروه نووي، لا سمح الله، كما دعت له الكويت سابقاً، من باب الحرص على الوحدة الخليجية وتفويت الفرصة على أي تدخل خارجي وحماية الإقليم من أي كوارث بيئية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى