تقارير

الناصرية.. مدينة تعشق التمرّد وتستلهم أمجادها

خالد جان سيز –
كانت بلاد سومر في العصور القديمة، وواسط أيام الدولة الأموية، ثم البطائح في العصر العباسي، فالمنتفق في العهد العثماني.
هي قديماً «أور» عاصمة المملكة السومرية، وهي أولى الحضارات التي تأسست في العالم، حيث يعود تاريخها إلى ما قبل الحضارة العبيدية 7000 ق.م.
إنها مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار، التي تختصر المشهد السياسي والأمني في العراق، عاكسة في حراكها الأخير الذي انطلق قبل أيام قليلة، صورة حقيقية لمواضع الخلل الحكومية، وتحكّم الميليشيات المدعومة من إيران بمفاصل الدولة، ومعاناة الشعب من غياب الأمن وكمّ الأفواه وضياع الحقوق.
دائماً ما كانت الناصرية الشرارة الأولى لأي حراك شعبي، فالمدينة بما تملكه من تاريخ عريق وتنوع ديموغرافي وبعد ثقافي وفكري تمثّل قاطرة للمحافظات الجنوبية، فما إن تحرك متظاهروها، مطالبين بإيقاف حملات الاعتقال والاغتيال التي تنفذ ضدهم، حتى لحق بهم محتجو بابل والبصرة ومحافظات أخرى، بحراك مماثل.
الناصرية على طول الخط مدينة معارضة، وفي مواجهة مع السلطة في كل الأنظمة التي حكمت البلاد، حتى نظام ما بعد 2003، الذي تقوده أحزاب وشخصيات تنتمي إلى المدينة نفسها والجنوب بصورة عامة.
أبناء الناصرية تربوا على الرفض، الناصرية مدينة تعشق التمرد على السلطة، وتعشق الرفض، فهي شجرة عناد. جينات القيادة متجذرة في أبنائها، ولديهم قدرة على التصدي وتحمل المسؤولية.
سُمّيت الناصرية بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها ناصر باشا السعدون شيخ المنتفق عام 1869. وكانت عاصمة إمارة المنتفق التي خاضت حروباً عدة، وعجزت الدولة العثمانية عن إخضاعها، نتيجة تحالف القبائل التي تسكنها، فاضطرت للاعتراف بها، وأصبحت تتحكم في جل جنوب العراق.
ومنذ انطلاق الاحتجاجات العراقية مطلع أكتوبر من العام الماضي، كانت الناصرية أكثر منطقة تعرضت للعنف، بعد بغداد، واختلفت طبيعة الحراك والاحتجاج في محافظة ذي قار عن بقية المناطق، حيث شهدت حرق مقرات للأحزاب، وسقوط قتلى وجرحى على نحو متزايد، في الوقت الذي لم تشهد ذلك أي محافظة أخرى.
وكانت الناصرية أول مدينة كسرت هيبة الأحزاب والميليشيات وحرقت مقراتها، كما كانت أكثر تنظيما وجرأة في ظهور شخصيات صريحة وواضحة، وصارت ملهمة للمدن الأخرى في التصعيد، وتحولت إلى بوصلة للمحتجين في العراق، وباتت تخشاها السلطات.

نحو التصعيد
يتجه المشهد اليوم في الناصرية إلى التصعيد، وسط تأكيد المتظاهرين الاستمرار باحتجاجاتهم وعدم ثقتهم بالوعود الحكومية، لافتين إلى استمرار مسلسل الاغتيالات التي تطول النشطاء، وتجاهل الحكومة ضبط الأمن وتوفير الحقوق المشروعة.
واشتعلت شرارة التظاهرات منذ أيام في الناصرية على خلفية اغتيال مسلحين مجهولين للأستاذ الجامعي في جامعة المنارة بمدينة العمارة مركز محافظة ميسان أحمد الشريفي، منتصف الشهر الماضي، وقبله، عبد الناصر الطرفي، وهو زعيم قبيلة بني طي، المعروف بدعمه للاحتجاجات الشعبية في ميسان، وهما اغتيالان تزامنا مع ممارسات لعناصر «أصحاب القبعات الزرق» التابعين للتيار الصدري، بقيادة مقتدى الصدر، ضد الناشطين في ميسان.
ونتيجة تقصير الحكومة في ضبط الجناة، جاء الرد عبر اغتيال مسلحين مجهولين رامي الشباني، القيادي في «سرايا السلام» الجناح العسكري للتيار الصدري بمحافظة الديوانية. ثم اغتالوا أبو سلام الماجدي، وعلي المرياني، القياديَّين في «سرايا السلام» في محافظة ميسان، حيث كمنوا لهما على الطريق الرابط بين قضاء المجر ومدينة العمارة عاصمة المحافظة، وأصيب شخص ثالث بجروح.
العزيمة الموجودة عند أهل الناصرية لا تلين، وهي قديمة، فخلال الحرب العالمية الأولى دخل الإنكليز المدينة في يوليو 1915 بعد معركة شهيرة قتل فيها نحو 2000 جندي عثماني و400 جندي بريطاني وهندي بريطاني، لتتحول بعد ذلك إلى نقطة إستراتيجية للسيطرة على باقي مناطق العراق خصوصا منطقة الفرات الأوسط.
وخلال الغزو الأميركي للعراق عام 2003 دخلت قوات التحالف الناصرية بعد معارك عنيفة استمرت منذ 23 مارس حتى 10 أبريل قتل فيها 700 عراقي و22 جنديا من المارينز وجرح 150 جندي مارينز آخرين وأسر عدد من الجنود أشهرهم جيسيكا لينش.
واليوم، ليس مستبعداً تصاعد المواجهات وعمليات الانتقام ضد أنصار الصدر، ما يثير مخاوف من اقتتال داخلي خطير، ولذلك فعلى السلطات اتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة لحفظ الأمن والسيطرة على الأوضاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى