ماكرون غرق في المستنقع اللبناني

ترجمة أنديرا مطر –
انتفاضة اللبنانيين الشعبية وانفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس حولا لبنان قضية رئيسية على طاولة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي اندفع بحماسة وجرأة مطالبا اللبنانيين بالتغيير السياسي قبل أن يصطدم بصلابة النظام اللبناني. بحسب صحيفة «لوموند» الفرنسية.
فجّر انفجار المرفأ غضب اللبنانيين، وسيبقى في ذاكرتهم حتى أمد طويل. كل فريق الرئيس ماكرون الدبلوماسي سيتذكر هذا النهار أيضاً، ومعظمهم قطع اجازته الصيفية وعاد في غضون ساعات إلى قصر الإليزيه نظراً لحجم الكارثة.
في أبريل 2018، نظمت فرنسا مؤتمر سيدر من أجل لبنان.
ظاهرياً، كان المسعى استمرارًا لسلسلة من المؤتمرات: باريس1، وباريس 2، وباريس 3، والتي نُظمت في عهد جاك شيراك. لكن «سيدر» أتى مغايراً للنسق السابق بناء على رغبة ماكرون.
من الآن فصاعدًا، لا أموال مجانية بل مشروطة بإصلاحات في القطاعات الرئيسية والإدارات العامة. وفق دبلوماسي فرنسي رفيع «نظمنا محضراً يمنع تجديد نظام المافيا والمحسوبية، القائم على الفساد والديون والاقتصاد غير المنتج»
لفترة طويلة، التزمت الدبلوماسية الغربية الصمت حيال الفساد على أعلى المستويات السياسية. فجاء سيدر ليشكل قطيعة في هذا المسار، الا ان اللاعبين بقيوا أنفسهم.
لم يفض سيدر الى شيء. بعد الانتخابات النيابية، عادت الطبقة السياسية إلى لعبة المقايضة، وبدأ لبنان يتجه نحو الإفلاس.
إنقسامات مستمرة
في هذا المستنقع اللبناني قرر إيمانويل ماكرون الغوص بشيء من الجرأة والغطرسة معاً. رغم أن طموحه وخطابه أوهما، خطأً، وكأن الطبقة السياسية وُضعت تحت وصايته، في حين كانت تكافح من أجل بقائها.
كلامه عن «عقد جديد للشعب اللبناني» أطلق سيلا من التفسيرات. هذه العبارة تحيل تاريخيا إلى ميثاق العيش المشترك 1943 كما الى اتفاق الطائف الذي ينص على وجه الخصوص على حل جميع الميليشيات. يقول دبلوماسي فرنسي محللاً «كانت لحظة توتر كبير وإلحاح.. لم يكن المقصود صنع طائف جديدة أو ميثاق جديد، بل اتى تعبيرا عن حاجة ملحة للرد».
مقاربة شاملة
على الخطين الإنساني والسياسي واصل ماكرون جهوده. في 9 أغسطس نظمت فرنسا والأمم المتحدة مؤتمرا دوليا لدعم الشعب اللبناني جمع أكثر من 250 مليون يورو كمساعدات طارئة بشرط واحد «ان لا تمر الأموال عبر المؤسسات الرسمية» التي تم اقصاؤها باستنثاء المؤسسة العسكرية. كما تواصل مع العديد من القادة الأجانب من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الإيراني حسن روحاني. بهدف اقناعهم بالحد من التدخل الخارجي في لبنان.
لكن عاملاً آخر القى بثقله على المبادرة الفرنسية: إدارة ترامب. بالنسبة لواشنطن، كل ما يعنيها هو إيران وبرنامجها النووي وطموحاتها في المنطقة.
بعد أسبوع على مغادرة ماكرون لبنان، فرضت واشنطن عقوبات على وزيرين سابقين من حلفاء حزب الله تعبيراً على معارضتها لنهج الإليزيه، أو «تمسك باريس بوهم الجناح السياسي لحزب الله» حسب بومبيو. وفي نوفمبر، فرضت عقوبات على جبران باسيل، صهر الرئيس ميشال عون، الحليف الرئيسي لحزب الله.
في 28 أغسطس، طالبت فرنسا بـ «حكومة مهمة» تنفذ الإصلاحات.
بدا تكليف رئيس وزراء جديد، مصطفى أديب، عشية وصول الرئيس الفرنسي، علامة إيجابية نادرة. لم يصمد أديب سوى أسابيع ليعود سعد الحريري رئيسا مكلفاً.
لم تولد حكومة حتى الساعة. تتريث الطبقة السياسية بانتظار جلاء موقف الادارة الاميركية الجديدة. في الاثناء، يبقى لبنان كازينو تجري فيه المراهنة وفق هوية الموزع. ويستمر انهيار البلاد، ومن استطاع سبيلا الى الرحيل فيرحل عنها بقلب مثقل.
باريس تراهن على الحصان الخطأ
يدرك الفرنسيون أن المسؤولين الذين جمعهم ماكرون في قصر الصنوبر في 1 سبتمبر هم أوصياء على نظام فاسد يغذيهم، وليس لديهم مصلحة في إصلاحه أو إدانته. في المقابل، لم يشتد ضغط الشارع بعد الانفجار رغم استقالة رئيس الوزراء، أما المعارضة المدنية، المنقسمة للغاية، فقد حولت جهدها إلى تضامن طارئ للمحتاجين والمشردين.
مصدر دبلوماسي فرنسي يقول «لم نراهن على استئناف الحراك الشعبي، بل على الوعي العام، بما في ذلك أعضاء البرلمان». والمتظاهرون الذين يدعمون جهود باريس، صبوا غضبهم على الرئيس الفرنسي بدلاً من أن يكونوا أفضل حلفاء له. برأيهم، ماكرون أعاد تعويم المسؤولين اللبنانيين، من الرئيس ميشال عون إلى سعد الحريري، من دون أن ننسى حزب الله.
يكشف الدبلوماسي الفرنسي أن خيار تعيين رئيس وزراء «تكنوقراطي» بصلاحيات تشريعية استثنائية، استُبعد لأننا «ادركنا أن الامر سيكون معقدًا». لافتا الى أن أولوية ماكرون كانت تجنب الملفات التي تصرف الإنتباه عن القضايا الملحة الحقيقية. لذلك لا ينبغي في هذه المرحلة مناقشة نزع سلاح حزب الله ولا قانون الانتخابات ولا الصلاحيات الاستثنائية لرئيس الوزراء.
في الأول من سبتمبر وافق الجميع على خارطة طريق بشأن الجدول الزمني للإصلاحات. وتشمل تدقيق حسابات مصرف لبنان، وتنظيم قطاع الكهرباء، وانشاء هيئة مكافحة الفساد. وكان مقررا تشكيل حكومة في غضون خمسة عشر يومًا ولم يلتزم القادة به.
«أخجل من قادتكم»
مسار الخيبات هذا لا يزعزع ايمان الرئيس الشاب بسلطته. وهو يستبعد إمكانية فرض عقوبات على القيادات اللبنانية في هذه المرحلة نظرا لعدم فعاليتها. اذا، لم يبق من المبادرة الا كلامه فقط. لقد فهمت الأطراف اللبنانية ذلك جيداً. وهم مرتاحون لإفلاتهم من العقاب في الماضي، تلك السنوات الطويلة التي تغاضت فيها القوى الأجنبية المعنية عن انتهاكاتهم وتخاذلهم.
نادراً ما كانت الفجوة بين استخدام الكلمات النارية والعجز عن الفعل صارخة، «أشعر بالخجل من قادتكم». قال ماكرون مكررا:«أشعر بالخزي والعار»، واصفا ما حدث بـ«خيانة جماعية»من طبقة سياسية يسيطر عليها الفساد.
في بيروت، يواصل سياسيون بارزون تقديم المبادرة الفرنسية على أنها طريق الخلاص.«كانت لدينا الوصفة الطبية، لكننا لم نتابع العلاج. الآن ليس لدينا خيار، نحن في العناية المركزة. هل يريدون أسلوبًا جديدًا في عملنا؟ سنقوم بذلك» يقول مستشار لبناني بارز. ويضيف«المنطقة في حالة يرثى لها. لم يعد هناك أي أنظمة عربية قادرة على الدفع بمبادرة، لذلك نحن بحاجة الى دعم دولي لتجاوز المشاكل الداخلية».