عندما يشنّ الكيان الصهيوني إرهابًا نفسيًّا على اللبنانيّين

جان ماري توما-
تُعَلّمنا الحياة إمكانيّة الإعتياد على حزننا أو على ظرفنا، في حال كان يضربُ مشاعرنا يوميًّا. ولكن «الإعتياد» في بعض الأحيان هو أمر مرفوض.
يوميًّا، الطيران الصهيوني يأخذ من الأجواء اللبنانيّة مساحةً للمراقبة أو لضرب هدفٍ في سوريا. ويوميًّا، هناك من يقف أمام النوافذ يستذكر أيّام الحرب والهروب إلى الملاجئ ويتمنّى على التاريخ أن لا يعيد أدراجه إلى الوراء؛ وهناك من يفضّل الإبتعاد عن النوافذ طالبًا: «رحمتك يا رب… نحن لا نستحمل المزيد من المصائب». ولا يخلو المشهد من مواطنين غاضبين يستفزّهم من يحلّق ويخرق كرامة موطنهم.
هذا المشهد الذي ينقسم بين نزهةٍ صهيونيّة ببرودة أعصاب في السماء اللبنانيّة وبين مواطنين على الأراضي يتردّدون بتوقّعاتهم حول إمكانيّة حدوث قصف، ليس إلّا إرهابًا نفسيًّا على الشعب اللبناني!
التاريخ يتكلّم
بالطبع، الخروقات الصهيونيّة للأجواء اللبنانية ليست وليدة أمس. لطالما اشتهر الكيان الصهيوني بانتهاكه ليس فقط لسماء لبنان، الأراضي أو البحر ولكن أيضًا طبلة الأذن اللبنانية والراحة العقلية والعاطفيّة.
في كتابه «Pity the nation» الذي يتكلّم عن الحرب الأهلية اللبنانية في الفترة ما بين 1975 إلى 1990، يصف الصحافي الراحل روبرت فيسك، الضجيج الكبير الذي أحدثته طائرتان صهيونيّتان في يوم من أيّام عام 1978 بالكلمات التالية: قامت طائرتان إسرائيليتان بـ«اختراق حاجز الصوت أثناء تحليقهما على مستوى منخفض فوق غرب بيروت، فتحطّم زجاج النوافذ الأمامية للمتجر في شارع الحمرا [الشهير في عاصمة بيروت] مع ترافق لدوي ضخم».
من المؤكد أنه ليس موضوعًا يجذب انتباه وسائل الإعلام كثيرًا عالميًّا، ولكن إذا قضى المرء بعض الوقت على «غوغل»، فستظهر المشكلة بالفعل. عام 2017، كان هناك إرسال من رويترز حول دويّ اختراقات حاجز الصوت الذي «حطم النوافذ وهزّ المباني» في مدينة صيدا-جنوب لبنان، وفق ما ورد في موقع «Middle east eye».
إن عدنا أدراج الزمن أكثر إلى الوراء، نجد عنوانًا للـ«بي بي سي» البريطانية، عام 1998: «الطائرات الإسرائيلية تخلق دويّ اختراق حاجز الصوت فوق لبنان»، في مادة تتعلّق بالغارات الوهمية التي شنها سلاح الجو الصهيوني فوق بيروت وضواحيها.
والمأساة النفسيّة لا تزال مستمرّة، ومن المؤكد أن عدم الاهتمام النسبي لوسائل الإعلام العالميّة حاليًّا، ليس بسبب نقص المعلومات. فلبنان يتردّد في الإعلان عن الانتهاكات غير القانونيّة الصارخة لمجاله الجوي من قبل عدوّه، وقد قدّم في مناسبات مختلفة شكاوى إلى الأمم المتحدة – كان آخرها هذا الشهر.
بالنظر إلى سجل الكيان الصهيوني في لبنان، وهو سجلّ دمويّ يتضمّن أيضًا غزو عام 1982 الذي قُتل فيه ما يقدّر بنحو 20 ألفَ شخصٍ معظمهم من المدنيّين، ليس من الصعب أن نحلّل سبب «الذعر» الذي يخلق في نفوس المواطنين عند التحليقات الجوية.
«هدير الموت»… ومشهد تفجير المرفأ يتكرّر في الأذهان يوميًا
أدى الارتفاع الأخير في نشاط سلاح الجو الصهيوني إلى نشر مقال في وكالة «أسوشيتد برس»، في 10 يناير تحت عنوان: «الطائرات الإسرائيلية التي تحلق على ارتفاع منخفض فوق لبنان تنشر التوتر».
يتابع المقال عبر نقل حسابات اليونيفيل بأن الكيان الصهيوني ارتكب بين يونيو وأكتوبر 2020، معدّل يومي: 12.63 انتهاكًا للمجال الجوي. والطائرات بدون طيار تمثّل حوالي 95% من هذه الإختراقات.
لطالما عانى لبنان في حقبات مختلفة، ولكن هذه المرحلة هي من بين الأسوأ اقتصاديًّا، صحيًّا وأمنيًّا.
التفجير الضخم الذي حصل في مرفأ بيروت، لم يهدّم فقط مباني العاصمة، تراثها وشوارعها بل هدّم النفوس وزرع اليأس في القلوب. من لم يمت في الإنفجار، مات شيئًا داخله. من لم ينصاب في الكارثة، أصابه اضطراب القلق الدائم. لا تزال دماء الضحايا لم تنشف، ولكن الكيان الصهيوني لا يأبه.
لنستذكر يوم 4 آب 2020، وفقًا لوصف سكان بيروت: «سمعنا صوت طيران، ثمّ هدير قوي وشعور بهزّة أرضيّة لـ20 ثانية تقريبًا، بعدها شعرنا بضغطٍ قوي يلقينا أرضًا يرافقه صوتًا تفجيريًّا رهيبًا…وهنا لم يظهر أمامنا إلى دمار ودماء».
هذه الأصوات ستبقى محفورة في ذهن الكبير والصغير، في ذهن المواطن واللاجئ. فكيف الحال إن كان هناك طيران يحلّق في سماء المنطقة يوميًّا، يعيد للأذهان لحظات مرعبة.
إذًا، بالنسبة للّبناني، هذه الخروقات ليست طيرانًا وحسب بل «هدير الموت».
أخيرًا، هذه الإنتهاكات لن يرضى التاريخ أن تتحوّل إلى «مشهد اعتيادي»، فالذاكرة لا تنسى. ومن ناحية أخرى، كرامة شعب لن ترضى أيضًا أن تصبح هذه الأصوات «عادة»، لأنّ السيادة هي على رأس المبادئ.
الإرهاب ليس فقط صواريخ، تفجيرات ومشاهد دمويّة بل هو أيضًا حرق أعصاب عبر ترهيب النفوس.