«القاع» اللبنانية غارقة في «كورونا».. وتنتظر مونيكا بيلوتشي
«أهلاً وسهلاً» اختفت من أدبيات أبناء الريف اللبناني والاحتفاء بالأفراح كما بالأحزان تقلَّص إلى حدوده الدنيا

بيروت – أنديرا مطر-
بدّلت جائحة «كورونا» سلوكيات العالم بصورة جذرية. «أهلاً وسهلاً» المتداولة على لسان أبناء الريف اللبناني اختفت من أدبياتهم، والاحتفاء بالأفراح كما بالأحزان تقلص إلى حدوده الدنيا.
منذ تفشي الوباء وارتفاع أعداد الإصابات إلى مستويات قياسية جاوزت الخمسة آلاف، لم يعد من سبب آخر للموت في لبنان سوى «كورونا»، الوباء الذي احتلت أخباره اللغة ونشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي التي تحفل بأوراق النعايا والمراثي. صار للموتى وجوه وأسماء نعرفها أو نتعرف إليها، ومن لم يفجع بوفاة قريب بات يعرف بعضَ من تُوفوا.
صفارة سيارة دفن الموتى وهي تعبر الشوارع في لبنان أصبحت النغمة اليومية التي يسمعها المواطن، ويجزم أنها تنقل متوفى بـ«كورونا»، مع ترقب الناس كل مساء بهلع وصمت لنشرات الأخبار، من أجل معرفة أعداد ضحايا الوباء.
من حيث أقيم في غرفتي على بعد 150 كيلومتراً، أتقصَّى أخبار ضيعتي القاع، على حدود لبنان الشمالية. كانت مثالاً ونموذجاً لقرى عدة نجحت في بداية الوباء في تقليص عدد الإصابات، بفضل تشدد بلديتها في تطبيق الإجراءات، إلى حد إقامة الحواجز داخل البلدة، وتسطير محاضر ضبط للمخالفين، شأنها شأن بلديات أخرى، حلت محل الدولة المتهالكة العاجزة، في رعاية شؤون مواطنيها معيشياً وصحياً.
لكن اليوم يجتاح «كورونا» القاع أسوة بكل مناطق لبنان. أكثر من 150 مصاباً من القرية يتلقون العلاج في المنازل. ومن تستدعي حالته يُنقل إلى مستشفيات الهرمل القريبة.
لا احتفالات
يقول رئيس بلدية القاع بشير مطر: «لأول مرة في تاريخ بلدتي التي يعود تاريخها لمئات السنين لم يعد يقرع جرس الكنيسة. ليس بسبب الحروب أو الإرهاب أو القمع، بل التزاماً بقرار التعبئة العامة، الذي طلب وقف الاحتفالات ومنع القداديس. خلال فترة الإغلاق الأولى التي شهدها لبنان في مارس الماضي، واظب الأهالي على إقامة القداديس بحضور مجموعة صغيرة من المؤمنين، وكانت تنقل مباشرة على صفحات التواصل الاجتماعي. أما اليوم، فكاهن بلدة القاع اليان نصرالله مصاب بكورونا، ويتلقى العلاج في المنزل» يقول رئيس البلدية.
تقع القاع في أقصى البقاع الشمالي الشرقي، يبلغ عدد سكانها 13 الفاً (مقيمين فيها وفي خارجها)، وبسبب موقعها هذا الذي أورثها الحرمان والنسيان ككل بلدات الأطراف، اختبرت مبكراً ويلات الحرب الأهلية، وتعرضت لمجزرة في مطالع هذه الحرب أودت بالعديد من أبنائها.
وبسبب موقعها الحدودي مع سوريا، لم تنج من نيران الحرب السورية، وتعرضت في 2016 لسلسلة تفجيرات انتحارية من قبل عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي الذين كانوا متحصنين في الجرود الشرقية المطلة على البلدة. وظلت في السنوات الأولى من المقتلة السورية معبراً لتهريب السلاح والمسلحين من لبنان إلى مدينة القصير القريبة، وتستخدم جرودها ومعابرها اليوم لتهريب المازوت والمواد الغذائية المدعومة من لبنان باتجاه سوريا.
يذهب موتى «كورونا» إلى مثواهم الأخير بصمت. فقط بدموع مختنقة في المآقي. ويحاول رئيس البلدية تعويض هذا الصمت بكلمات تليق بالمتوفين. يستخدم صفحة البلدية على موقعها الإلكتروني لرثائهم، لكي لا تطوى صفحة حياتهم كأنهم لم يكونوا. يكتب في رثاء خليل مطر، الأب لعشرة أولاد أن «الناس سيتذكرون دائماً الإنسان الآدمي الذي قدّم معظم أولاده للجيش اللبناني. وظل حتى آخر عمره يناضل في أرضه. وربّى عائلة كبيرة، وكبّرها من عمله في الأرض. وهذا ما تعجز عنه الدولة في هذه الأيام».
مراسم الدفن
كلمات قليلة وصورة واحدة من مراسم الدفن المختصرة هي كل ما نعرفه عن ضحايا «كورونا». وفي رثاء هند نصرالله التي توفت بعد شهر على وفاة زوجها جراء إصابتها بالفيروس، كتب مطر: «أم لتسعة أولاد. بالكاد ودعها أولادها. فلا الأخ ولا الأقارب ولا الجيران حضروا. زمن بائس، فرض علينا الوحدة بالحجر والأمرض، وبالوداع».
تفصل بين بلدتي القاع والهرمل مسافات قليلة وتوجهات كثيرة. لكن مستشفيات الهرمل تحتضن مصابي القاع، وتتولى الهيئة الصحية الإسلامية في الهرمل ترتيبات الدفن، كما تؤمن فحوصات الاختبار للمصابين وتقوم بنقلهم الى المستشفى.
لا يتوقف رئيس البلدية عن دعوة أبناء بلدته إلى التزام بيوتهم حماية لهم ولأحبابهم. وفي المرة الأخيرة توجه إليهم بطريقة غير تقليدية، مستعيناً بمونيكا بيلوتشي، مرفقاً منشوره بصورة للنجمة الإيطالية الفاتنة، واعداً إياهم بزيارة مرتقبة لبيلوتشي إلى القاع. وكتب مطر: «من يلتزم بيته ويضع كمامة ويعقم يديه ويطلب حاجاته من المحال التجارية بواسطة الديليفري ستزوه مونيكا. وتأكل معه كشك ومكدوس، وتحضّر الأرض للدراق والعنب، وستزور البيوت الترابية والمزارات، وتحضر اجتماع المجلس البلدي، وتوقع صورة عليها طابع القاع الصادر عن وزارة المالية وتضع إكليلاً على نصب الشهداء. وسترقص وتدبك مع كبار الضيعة وصغارها».
وختم رئيس البلدية منشوره: «الزموا بيوتكم لحماية أنفسكم وأحبابكم، ليمكنكم أن تتمتعوا بالجمال على أنواعه».