تقارير

اللبنانيون يركنون سياراتهم جانباً إلى أجل غير مسمّى

ثمن بطارية يوازي 6 أضعاف ما كان عليه قبل انهيار الليرة

بيروت – علي حمدان

إنها السابعة صباحاً في لبنان، لا يعكّر سكينة الإقفال العام سوى كريم، يفتح غطاء محرك سيارته المخصصة لتوزيع السكاكر، ينتزع بطاريتها، ويتجه نحو شاحنة نقل قوارير مياه الشفة الى المنازل، يقوم بإسقاطها في الحجرة الصغيرة الى جانب المحرك، يفرك راحتيه الباردتين ببعضهما سريعاً، فصقيع فبراير في لبنان سيبيريّ، ثم يواصل تمديد أشرطة البطارية، يعدّل غطاء المحرك، يرش القليل من سائل معقم على يديه، قبل تشغيل المحرك، ويبادر الى وضع كمامته عند اقترابي منه لسؤاله عن سبب نقله للبطارية: «ثمن البطارية حالياً يوازي ستة أضعاف ما كان عليه قبل انهيار الليرة، أفضّل إنفاق ما أجنيه على إطعام أبنائي في الوقت الحالي بدلاً من شراء بطارية ثانية»، يقول الأربعيني الذي امتهن بيع المواد الغذائية والمياه لتأمين حياة كريمة لعائلته، مذيّلاً إجابته بضحكة متهكّمة.

بيروت مدينة مصممة لخدمة السيارات لا الإنسان، وحسب دراسة أجرتها الشركة الدولية للمعلومات، فإن عدد السيارات المسجلة في لبنان فاق المليون وثمانمئة، حتى أواخر عام 2018.

قطع الغيار

تقول التخصصية في التنظيم المدني ريتا رزوق في معرض توصيفها لمدى اعتماد اللبنانيين على السيارات للتنقّل في ظل غياب قطاع نقل عام فاعل: «العائلة المكونة من خمسة أفراد تمتلك خمس سيارات في لبنان. هذه بلاد تسكنها السيارات لا البشر».

لكن الركود الاقتصادي والانهيار المالي الأخير أجبر شريحة واسعة من اللبنانيين على ركن سياراتهم الى أجل غير مسمى.

في حديث لـ القبس، تقول الأستاذة المحاضرة في الجامعة اللبنانية د. ريما حلو: «تعرضت لحادث سير قبل نحو ستة أشهر، ولم أتمكن من إصلاح سيارتي، بسبب غلاء قطع الغيار بشكل جنوني وارتفاع تكلفة خدمات الصيانة والطلاء وغيره، فاضطررت الى الاستغناء عنها. أستعين حالياً بالدراجة الهوائية للتنقل»، مشيرة الى أن قيمة راتبها تدنت من ثلاثة آلاف دولار الى 500 دولار فقط بسبب انهيار الليرة.

وتضيف: «راتبي الحالي لا يكفي لشراء حتى أضواء جديدة للسيارة، فلجأت الى الدراجة للتنقل والتريّض والتخفيف من الانبعاثات السامة الملوثة وتجنّب مخالطة الناس في سيارات الأجرة، فأرقام الإصابات ارتفعت بشكل مقلق أخيراً»، مشددة على ضرورة التأقلم مع الأحوال مهما بلغت صعوبتها. وتكمل: «من الصعب استبدال الدراجة الهوائية بالسيارة في لبنان، فطبيعة البلاد الجغرافية وتضاريس مدننا تحول دون ذلك، كما يتعذر اللجوء الى الدراجات النارية لافتقارنا للقوانين الناظمة لاستخدامها».

اضطرابات نفسية

أما التخصصية الاجتماعية والناشطة السياسة د. سلام بدر الدين، فتقول: «كنت قد ابتعت شادراً لحماية سيارتي قبل أربعة أعوام ولم أستخدمه، أحرص على تغطيتها به الآن، وأقوم بتشغيلها في المرآب كل يوم للمحافظة على بطاريتها، فقد أنفقت ثلاثة أرباع راتبي التقاعدي من أجل تغييرها أخيراً»

من جهتها، ترى المعالجة النفسية د.ماري نهرا أن تراجع استخدام اللبنانيين لسياراتهم أدى الى انخفاض مداخيل عمال صيانة وتصليح السيارات. وتخبرنا عن ميكانيكي قصد عيادتها شاكياً نوبات الهلع والقلق وغيرها من الاضطرابات النفسية، فتقول: «تحدث الميكانيكي الخمسيني عن تقلص عدد زبائنه، وبالتالي إنتاجيته، وعن قلقه على مستقبله ومستقبل عائلته جراء ذلك. اللبنانيون، للمرة الأولى، فقدوا المناعة النفسية بعد استنزاف طاقاتهم الذهنية على التأقلم مع الأزمات والحروب المتتالية».

وتعليقاً على ظواهر الفقر المتزايدة في لبنان تجزم بدر الدين بأن «الأزمة المالية دفعت بالكثير من الفقراء وبالطبقة الوسطى الدنيا عامة نحو الفقر المدقع، لكنها أدخلت في الوقت عينه الشعب اللبناني برمّته في مرحلة تقويم لسلوكياته الاستهلاكية غير الصحية»، مردفة: «كل الشعوب تمر بفترات ضيق، والفترة الحالية هي فترة تغيير بطيء للاستهلاك التفاخري الذي اعتدنا عليه، إلى حد دأبت فيه مصارفنا على منحنا القروض للسفر الى تركيا وغيرها، وحقن الوجوه بالبوتوكس، بدلاً من تمويل المشاريع الزراعية والصناعية المنتجة. المرحلة الحالية تربوية، وسنخرج منها بعادات إنفاق سويّة»، معربة عن تعاطفها مع أصحاب المهن الحرة وباعة السلع غير الضرورية، واستطردت: «لا شيء سلبياً أو إيجابياً بالمطلق، ترشيد استخدامنا لسياراتنا يندرج في إطار تعلمنا إدارة مواردنا وممتلكاتنا بشكل صحي».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى