هل يهدد المنطقة «ربيع عربي جديد»؟

علي حمدان ومحمد أمين –
يطوي الشرق الأوسط عقداً من الزمن على اندلاع أولى شرارات ما سمي بـ«الربيع العربي» الذي تزامن مع وصول الرئيس الديموقراطي باراك أوباما إلى البيت الأبيض بعد ثماني سنوات من حكم ادارة الرئيس جورج دبليو بوش التي خاضت حروباً تحت ستار محاربة الإرهاب عقب هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية.
فبعد عشر سنوات على الاحتجاجات التي انطلقت من تونس وصولاً الى مصر وليبيا وسوريا واليمن لم يتغير شيء في تلك البلدان، مع صعود لتيار الإخوان المسلمين، فيما الشعوب لم تحصل على مرادها، وسط تفاقم مشاعر اليأس والحرمان التي غذت هذا الفصل المضطرب في الشرق الأوسط.
وفيما الشباب لا يزال متحمساً للتغيير، الا ان معظم الدول التي شهدت الاحداث عادت الى المربع الأول، فها هي تونس تعيش خلافات تعصف بالحكم، وفي ليبيا يتقاتل الذين اطاحوا القذافي على السلطة، وأمست البلاد ساحة صراعت اقليمية يُستجلب فيها المرتزقة للقتال، وسوريا لا تزال تدفع الثمن الاكبر مع تشبث الرئيس بشار الاسد بالحل العسكري لقمع المعارضة بعد تهجير ثلث السكان وقتل نحو نصف مليون سوري. وكذلك لبنان الذي كان أول دولة تعيش انتفاضة شعبية كبيرة عقب اغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري عام 2005، يعيش اليوم امام أزمة سياسية واقتصادية حادة تدفع به إلى حافة الانفجار. ولا نغفل دولاً عربية اخرى طالبت شعوبها بصورة أو بأخرى بالتغيير.
ومع اقتراب تسلم الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إدارة البيت الأبيض وقدوم «حزب اوباما» مجدداً إلى الإدارة الأميركية، يطرح المراقبون العديد من التساؤلات حول مصير الشرق الأوسط، وعلى رأسها هل المنطقة مهددة بـ«ربيع عربي جديد»؟ وكيف سيكون شكله هذه المرة؟
قبل عقد من الآن قام بائع فاكهة جائل يدعى محمد البوعزيزي بإضرام النار في نفسه في العاصمة تونس احتجاجاً على قيام الشرطة بمصادرة عربته. إحراق البوعزيزي لنفسه أدى الى إشعال تونس وعواصم عربية عدة، حيث حثّ بفعلته آلاف العرب المهمشين للخروج ضد أنظمتهم.
صحيفة الغارديان سلطت الضوء على ما حصل في السنوات العشر الماضية، قائلة ان التونسيين تخطوا خوفهم فملؤوا ميادين «الخضراء» تنديداً بما جرى مع شهيد بلادهم مطالبين بإسقاط الحكومة، وبعد أيام من وفاة البوعزيزي وبداية الحراك تنحى بن علي عن الحكم، والبوعزيزي أصبح أيقونة الشعوب العربية المنتفضة ورمز لحقبة عصيبة من تاريخ المنطقة. فالتظاهرات في كل من مصر واليمن وليبيا وسوريا سرعان ما تحولت الى ثورات ضد الحكام.
أنظمة سرمدية
تواتر الانتفاضات في العواصم العربية شكَّل صدمة لدى حكام اعتادوا معاملة مواطنيهم كأدوات، ولم يتوانوا عن سحق أحلامهم من أجل حماية بقائهم في السلطة. والتنظيم المتقن للتظاهرات كان محل استغراب من قبل السلطات وقتذاك، إذ يسرته الشبكة العنكبوتية والهواتف الذكية وتطبيقات التواصل الاجتماعي التي أرهقت أجهزة الأنظمة الأمنية وألحقت بهم هزائم غير متوقعة.
إذ كان صعباً مع بداية 2010 الحفاظ على الاستاتيكو الذي طال أمده في عواصم عربية. فارتفاع معدلات الفقر وغلاء المعيشة وفساد النخب الحاكمة وغياب المحاسبة وتقلص فرص العمل أمام الشباب دفع بهؤلاء الى كسر حاجز الخوف والنزول الى الميادين.
الباحث في مؤسسة الخدمات الملكية المتحدة، رويال يونايتد سيرڤيسز الدكتور الدكتور أ. هيلير يقول: «لقد صُممت تلك الأنظمة لإدارة شعوب ذات خصائص ديموغرافية محددة، ولم يتم تطويرها لإدارة الجماعات بعد التغييرات التي طرأت على ديموغرافيتها». وقد حاولت هذه الأنظمة التعايش مع التحولات الديموغرافية من جهة ومواكبتها تنموياً واجتماعياً واقتصادياً مع حرصها على احتكارها الكامل للثروات والسلطة والتوريث السياسي للمناصب محاولة إيهام الناس بضرورتها من أجل حمايتهم من الإرهاب، لكن هذا لم يمنع وقوع الكارثة، ففي منتصف يناير من عام 2011 فر بن علي من تونس، في الوقت الذي كانت فيه القاهرة قاب قوسين الاحتجاجات العارمة التي دعت لإسقاط النظام، تلتها ليبيا معمر القذافي الذي قاد طرابلس الغرب لأربعة عقود انتهت به خبيئاً في مجاري الصرف الصحي حيث تم إلقاء القبض عليه وقتل من قبل الثوار، وسوريا حيث قام حافظ الأسد بتسليم أكثر الأنظمة العربية بوليسية لنجله بشار، والذي ما زال يواجه حتى الساعة تداعيات لفظ الشعب السوري له ولحزب البعث.
أوباما تخلى عن حليف واشنطن
الناشطة في مجال حقوق الإنسان والأكاديمية المصرية نانسي عقيل، التي كانت في الولايات المتحدة تزامناً مع اندلاع الربيع العربي، تقول لـ«الغارديان»: «كانت أختي بضيافتي وقد شاهدنا توافد المصريين الى ميادين القاهرة، فقلت لها إن مصر على أبواب ثورة، وأثبتت الأحداث أني كنت محقة».
بعيد أسابيع قليلة من اندلاع احتجاجات يناير 2011 تخلَّى الرئيس الأميركي باراك أوباما عن حليف واشنطن حسني مبارك وانتصر للشعب المصري، فتنبهت القيادات في كل من ليبيا وسوريا وتوجست من دعم واشنطن للشباب الغاضب، لتتحول الثورة في ليبيا بعد ذلك الى حرب مدعومة دبلوماسياً من دول عربية وغير عربية. ولمؤازرة معارضي القذافي تولت كل من فرنسا والدنمارك وبريطانيا وبتغطية أميركية تنفيذها ميدانياً. وبعد ذلك بأشهر انزلقت سوريا نحو حرب أهلية حيث قامت قوات الأسد بمهاجمة المدنيين والمعارضين، وفِي مقابلة له مع الشبكة الروسية عام 2012 حذَّر الأسد من مغبة التدخل الأجنبي محذراً من كلفته ستكون أعلى مما يمكن أن يتحمله المجتمع الدولي، وأن تداعيات إسقاط نظام بلاده ستكون عالمية. وبعد ثماني سنوات من مقابلة الأسد، ما زال الرجل رئيس سوريا صورياً، بينما تقوم كل من روسيا وإيران وتركيا بتقاسم الأدوار على الأرض في حرب أدت الى تدمير البلاد وقتل وتهجير السوريين.
تجربة الإخوان مريرة
مصر بدورها لم تسلم بعد تنحي مبارك، فحقبة الرئيس «الاخواني» محمد مرسي القصيرة كانت مريرة ومخيبة للآمال، وحاول الاخوان المسلمون فرض أجندتهم السياسية والدينية في البلاد، فانتهى الأمر إلى ثورة 30 يونيو 2013 التي ادت الى وصول الرئيس عبدالفتاح السيسي الى الرئاسة عقب الاطاحة بمرسي ووضع دستور جديد.
وفي سوريا، المعارضة التي طغت خلال الأشهر الأولى للربيع العربي على المشهد قد تم سحقها لاحقاً، وأعداد المعتقلين السياسيين في سجون دمشق بلغت أضعاف ما كانت عليه عام 2011 ناهيك عن التعذيب والقتل الرهيب، وصولاً إلى الجوع الذي بات يهدد السواد الأعظم من السوريين بسبب العقوبات الأميركية والاوروبية المشددة على نظام الاسد لدفعه للتسوية السياسية وتشبث الاخير بالسلطة وتوجهه للترشح للرئاسة مرة جديدة في انتخابات ستجري صيف 2021.
الهجرة والأبواب الموصدة
ولا تزال سوريا غارقة في حرب ما بعد الثورة، فيما إرث الثورات والحروب في المنطقة منذ دخول أميركا الى العراق عام 2003 الى تراكم. «الحرب في العراق والربيع العربي أدّيا الى نشوء التطرف وظهور تنظيم «داعش» واشتعال الحرب الأهلية في سوريا وأفضيا الى موجات هجرة غير مسبوقة الى أوروبا مما استنهض الشعبوية في الغرب ودفع المملكة المتحدة الى مغادرة الاتحاد الأوروبي لاستعادة السيطرة على حدودها للحد من عبور المهاجرين غير الشرعيين»، تقول إيما سكايت، المستشارة السابقة للجيش الأميركي في العراق.
بالإضافة الى ذلك فقد أدت الحرب العراقية الى فقدان ثقة الرأي العام بقدرات حكومات الدول القادرة، فانتصارات أميركا انتهت مع نهاية الحرب الباردة، وما العجز عن توقيف حمام الدم في كل من العراق وسوريا سوى دليل على ذلك.
عدم استخلاص العبر
في معرض التعليق على سلوك الأنظمة العربية إبان بداية الربيع العربي يرى المحلل البريطاني الدكتور أ. هيلير أن هذه الأنظمة لم تستخلص العبر من كل ما حدث، فهم يعتقدون أنهم أمام خيارين، الأول هو تبني العبور البطيء نحو الانفتاح والديموقراطية والبدء ببناء دول مدنية تضمن للفرد عيشاً كريماً وعدالة وحريات، والخيار الثاني يعاكس الأول، إذ يرون أن الحريات تمهد الطريق أمام شعوبهم لقذفهم، ومن أجل الحؤول دون ذلك تراهم يلجأون الى سحق الأصوات المعارضة وإحكام القبضة الأمنية.
اما الشباب فلا يزال متحمساً للتغيير بعد عشرة أعوام على ثورته الأولى، وتقول الناشطة نانسي عقيل «لا يجدر بنا التعويل على الحكومات من أجل التغيير، فإنقاذ بلادنا مهمة تقع على عاتقنا كشعوب، علينا العمل من أجل انتزاع حقوقنا وحرياتنا والتفكير بطرق فعالة جديدة من أجل نيل ذلك، هكذا يصبح التغيير ممكناً».
فهل نشهد عقداً جديداً من الربيع العربي مع بداية العقد الجديد يتزامن ايضاً مع انتعاش الإسلام السياسي في المنطقة وعودة «الأوبامية السياسية» إلى المشهد الأميركي والعالمي؟
تفاقم اليأس والحرمان
تشعر الغالبية في دول «الربيع العربي» أن ظروفها المعيشية تدهورت اليوم أكثر مما كانت عليه قبل عام 2011، وفق استطلاع لصحيفة الغارديان شمل 5275 شخصاً من الجنسين والفئات العمرية المختلفة. واشارت النتائج إلى أن مشاعر اليأس والحرمان قد تفاقمت.
وكان الشعور بأن الوضع أسوأ مما كان عليه قبل 2011 هو الأعلى في سوريا (٪75) واليمن (٪73) وليبيا (٪60)، حيث أفسحت الاحتجاجات لاندلاع حروب أهلية.
شمل الاستطلاع مصر وتونس والجزائر والسودان والعراق، وقال أقل من نصف الذين شملهم الاستطلاع إنهم أسوأ حالا.
وكان الجيل الأصغر من البالغين (18 و24 عاما) هم الأقل ميلا إلى القول ان الثورات كانت سلبية. لكن آباءهم بشكل عام أكثر تشاؤما معتبرين ان ابنائهم يواجهون مستقبلا أسوأ.
روح الاحتجاج لم تمت
قبل عشر سنوات، انطلقت احتجاجات لم يتوقع أحد حدوثها، وأثارت أحلاماً بالحرية، قبل أن تتدحرج كرة الثلج وتحطّم آمالاً كثيرة. لكن لم تمت روح الاحتجاجات بعد، وهو ما تجلّى بعد ثماني سنوات في اندلاع موجة ثانية من الانتفاضات في كل من السودان والجزائر والعراق ولبنان.
نسيج الواقع تغيَّر
تعتبر لينا منذر، وهي مؤلفة ومترجمة لبنانية لعائلتها جذور سورية ومصرية، أن شيئاً ما «في نسيج الواقع نفسه» تغيّر منذ اندلاع الاحتجاجات. وتروي منذر: «بكيت من الفرح في 2011 ولم أصدق مدى شجاعة الشعب المصري وجماله. بدا ذلك وكأنه فجر عهد جديد». وتضيف: «ثم أتت سوريا. كنت سعيدة لمصر ومتفاجئة بها، لكنني شعرت بالذهول والنشوة إزاء سوريا».
يلزم وقت للتغيير
هويدة أنور، هي واحدة من الشباب الحالم، بالرغم من أنها كانت تخرج والخوف يتملكها للمشاركة في التظاهرات. كانت هويدة ناشطة على الإنترنت، تدير نقاشات افتراضية غذت احتجاجات الشارع. تقول: «اعتقد الناس أن رحيل بن علي سيغيّر الأشياء، لكن يلزم 20 أو 30 عاماً» لتحقيق ذلك.
الأمل والواقعية
ليلة رحيل بن علي، غزت مقاطع فيديو تظهر المحامي الناصر العويني منتشياً بخبر هروب الرئيس من دون الاكتراث بقرار حظر التجول. وكان يصرخ مهللاً: «أيها التونسيون المقهورون، أيها المحرومون، بن علي هرب». ويقول المحامي اليساري: «كان ذلك بالنسبة إليّ ثأراً من 18 عاماً تعرضت خلالها للمضايقة والسجن».
لكن العويني يفصح اليوم أنه يشعر «بالإحباط». ويستدرك: «الأمل قائم. كنتُ حالماً، لكن اليوم أنا واقعي».
عدم إدراك حجم الخراب
مجدي، الليبي الثلاثيني، لم يندم قطّ على الخروج والتظاهر سلمياً إلى أن سقط نظام القذافي. ويقول اليوم إن الثورة «كانت مهمة وما زلت أؤمن بها».
في 15 فبراير 2011، كان مجدي طالباً حين فتحت قوات الأمن النار على عائلات تطالب بالعدل لأفراد مسجونين منذ 1996 في طرابلس، ويتعرضون لمعاملة سيئة. ويتذكر مجدي أن بلاده كانت تحت وقع «الصدمة» في «عدد من المدن»، وتظاهرات الناس كانت «عفوية» وفيها «تضامن».
ويتابع: «في بداية الانتفاضة، لم يكن مطروحاً قلب النظام.. فقط مطالب من أجل حرية وعدل وأمل أكثر». ويقول مجدي: «لكن بعد مرور كل هذا الوقت «لا أعتقد أننا كنا مدركين حقاً لحجم الخراب الذي ألحقه نظام القذافي بأسس الدولة».
عند الجوع يختفي الخوف
في سوريا، يقول دحنون، كانت المطالب «فقط من أجل الإصلاحات». كان دحنون في الـ15 آنذاك، ولا يزال تلميذاً في الثانوية. وشاهد التظاهرات السلمية في بلاده تتحول إلى مجازر دامية تحت قمع النظام. ويأسف دحنون، وهو طالب في العلوم السياسية اليوم، لأنه «لم تعد للسوريين كلمة». ويضيف بمرارة: «القوى الخارجية هي التي تقرر، سوريا لم تعد لنا». بعد عشر سنوات، يبقى بشار الأسد في السلطة، وحيداً بين قادة دول «الربيع العربي» الآخرين. ويعتبر المدرّس السوري أن «الأمور لابد أن تتغير»، ويضيف: «عندما تجوع يختفي الخوف.. يجب أن يحدث التغيير».